نظرات على هامش رواية" العابر" لجلول قاسمي-محمد بنسعيد (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

نظرات على هامش رواية" العابر" لجلول قاسمي

  محمد بنسعيد    



هُناكَ أسئلة كثيرة تطرح حول علاقة الإبداع بالتنمية والتطور في كل المجتمعات الإنسانية، سواء منها المجتمعات القديمة، الضاربة في عمق التاريخ، أو الحضارة الإنسانية المعاصرة بكل تنوعاتها ومختلف مستوياتها: يختصر التاريخ هذه العلاقة الجدلية بين الإبداع عموما والتطور الذي عرفته المجتمعات القديمة، فلا نكاد نجد مجتمعا قديما متطورا دون أن يكون له نصيب من الإبداع وقبس من الحس الفني والجمالي، ولعلها مسألة بديهية إذا اعتبرنا التقدم هو حاصل ما يقدمه الأفراد لمجتمعهم كل في تخصصه، نفس الأمر ينطبق على المجتمعات المتخلفة – ولا تطالبني هنا أن أعرف لك معنى التخلف- فالإبداع في هذه المجتمعات هو آخر ما يفكر فيه الأفراد، لا يوجد على قوائم الضروريات، وإني لأعجب أشد العجب وأخجل أشد الخجل حينما يطلب مني الحديث عن عباقرة الفن المغربي في مجال تخصصي، فلا أستطيع أن أحصر رجالا على رؤوس الأصابع أتباهى بهم أمام مخاطبيَّ، فأجد نفسي مجبرا على أن أبرر الأمر بالأوضاع الاجتماعية تارة، وبآليات إنتاج المعرفة تارة أخرى، والحقيقة التي أراها ماثلة أمامي، جلية سافرة دون استحياء، هي أن الإبداع عندنا يرتبط بالأفراد أكثر مما يرتبط بالمؤسسات، صناعة الإنسان عندنا غائبة، الإنسان المبدع عندنا غير موجود: حسنا، دُلَّني على اسم روائي مغربي واحد استطاع أن يبلغ اسمه الآفاق، وعرف المغرب به بين عمالقة الرواية في العالم؟! طيب، دعنا من الرواية فبكثرة الأحداث فقدنا القدرة على الحكي. دلني على اسم شاعر مغربي واحدٍ معروف في العالم بحسه الفني وروحه الشعرية الساحرة!! دعني من هذا كله، فروح الإبداع عندنا ميت ولا سبيل إلى إحياء هذه الروح إلا بإعادة التفكير مليا في تأهيل الإنسان المغربي عندنا، ولا أرى مدخلا صالحا لهذا البناء إلا بخلق قاعدة علمية صلبة: المعرفة هي الحل. الإبداع في كل المجالات لا يأتي من الفراغ بل هو نتيجة حتمية لصناعة الإنسان. الإنسان المبدع هو الإنسان العارف، الملم بتفاصيل حاضره القادر على قراءة المستقبل بفكر متنور مستفيدا من الإمكانيات المتوفرة، وما التعلل بضعف الإمكانيات وقلة ذات اليد إلا خذلان نستر به عورات فشلنا وقصورنا الفكري، لكن قبل الحديث عن الإبداع في كل المجالات يجب التفكير في بناء هذه القاعدة العلمية الصلبة، وأنا أؤكد- إذا صلحت النية والعمل- أن يجني المغرب الثمار بعد خمسة عشر عاما، وهي مدة قياسية هينة بمقياس الحضارات.
بدأت بهذه المقدمة لأثبت أن الإبداع الروائي عندنا مايزال يتخبط، مازالت الرواية عندنا في المغرب تعني ببساطة أن يحكيَ الكاتب قصة، أفضل ما يفعله الروائي هو تجميع أحداث وإعادة ترتيبها لتخلق نصا. وهذا جيد، لكنه لا ينتج رواية. الرواية كما أفهمها هي بناء معرفي، نسق يؤسس لمعرفة قادرة على حل إشكاليات معقدة في تفاعل مستمر مع الشخصيات، إنني أشبه الرواية بلعبة شطرنج، المنتصر فيها من يمتلك أوسع مدى للرؤية، لا ينظر إلى قطع اللعب بل ينظر إلى العلاقات التي تحكمها، لا ينظر إلى حركات القطع وإنما ينظر إلى المسافة التي تقطعها، الرواية بهذا المعنى هي اختصار الطرق إلى فهم أوسع للعلاقات التي تحكم تحرك الإنسان وأنماط سلوكه، إنها ببساطة خطاطة مشروع للتنمية والتقدم وليست مجرد حكي مُسَلٍّ، على هذا الأساس أُقَوِّمُ الأعمالَ الفنيةَ، أي بمقدار ما تصنع من إنسان، وبقدر ما تضيف له من رؤية ثاقبة تدفعه للتفكير من أجل إصلاح نفسه والمساهمة في بناء مجتمعه، إن أجمل شيء في الرواية ليس هو القصة التي تحكيها، وإنما الطريقة التي تحكى بها، أي الطريقة التي نصل بها سريعا إلى حياة كريمة.
اِرجع إلى عظماء الرواية في العصر الحديث، وتأمل كيف يبنون رواياتهم، تتبع طريقة البناء، بناء الرواية عندهم لا يختلف عن بناء الحضارات، منذ التأسيس حتى هرم الحضارة، إنها لعبة مسلية تجعل عقلك يسرح في غابة من الأسئلة العميقة. خذ على سبيل المثال روايات "غارسيا ماركيز"، خذ ما تشاء منها، وتأملها. اقرأها جيدا. لاشك أنك تفهمني الآن. في المقابل خذ أي رواية مغربية (لقد قرأت كل الروايات المغربية المنشورة قبل 2002)، اقرأها. تأملها. لن تجد فيها شيئا مميزا خاصا بالمغرب، كأنها كتبت في بيئة مختلفة، حتى النصوص التي تتخذ من المغرب فضاء لشخصياتها لن تجد فيها خصائص التفكير المغربي ولا عبقرية الإنسان المغربي. وإنما تجد فيها ركاما من الأحداث تتدافع متسابقة إلى النهاية في بناء هزيل، سخيف أحيانا. ومرجع ذلك في تقديري إلى أن كتاب الرواية عندنا لا يمتلكون بعد النظر، ولا النسق المعرفي الذي يؤلف هذه الرؤية ويوسع إمكانياتها حتى تصبح الرواية خاصة والإبداع عامة محركا للتنمية البشرية، ودافعا نحو الرقي المعرفي والاجتماعي.
على أولئك الكتاب "الشيوخ" الذين يمجدون التخلف أن يرحلوا، فقد أثبتوا فشلهم في أن يقدموا للمغرب شيئا نافعا يميزه بين الشعوب، لقد أعطوا فرصة ستين سنة كاملة، تحكموا في الحبر ووسائل الإعلام ودور النشر، وتحكموا في عقول المغاربة، وفي المقابل لم يجن المغرب شيئا ذا قيمة كبيرة يعتز بها بين الأمم الراقية في الفن والأدب، عليهم أن يغادروا بلا رجعة، فهذا الجيل الذين يسمونه احتقارا "الأدباء الشباب" هم أكثر فهما لروح الإبداع وأكثر يقينا وتصميما على أن يقدموا صورة المغرب المشرقة إلى الأمم، ولو قدر لهؤلاء الشباب عشر ما يعطى للشيوخ من إمكانيات مادية ومعنوية لأصبح المغرب منبر الثقافة العربية بلا منازع، ينشر ظلاله الفنية والفكرية على العالم العربي وتسقط أوراقه على أوروبا. إنني أرى الآن أحد "الشيوخ" يسخر من مقالتي بأسنان حطمها التدخين، وبنظارات سميكة لا يتعدى مدى رؤيتها رابطة عنقه. وأنا متعاطف مع سخريته، لا أحاسبه لأنه يسخر ممن يسميهم "شبابا" سخرية، فحاله كحال أضحية العيد، وهل تنفع السخرية أمام جيل فهم الإبداع بعمق ووضع يديه على الأسرار التي كانت إلى الأمس القريب حكرا عليهم، لكن الشباب لم يكتف بالتقليد بل تجاوز هذه الأسرار وحطمها. سألت أحد الروائيين: (هل تريدون أن أذكر الاسم!) قلت له: أريد أن أ‘رف طريقتك في كتابة الرواية؟ كيف تخطط لشخصياتك؟ لعالمك الروائي؟ للغتك؟ أجابني: هذا سر!! لعنته في سري. ولعنت هذه الأسرار التي جعلتني أضيع ساعة معه في المقهى. ولو كلفت نفسي بأن أقضي تلك الساعة الضائعة مع سكير مجنون لكنت استفدت من حكمته التي لا يعرفها أحد!
هكذا يرى هؤلاء أنهم يمتلكون أسرارا. طلاسم لا يعرفها غيرهم. والحقيقة أنهم أصبحوا مكشوفين، فالسر الوحيد الذي يمتلكونه هو أنهم لم يقدموا شيئا ذا قيمة نوعية للفن والأدب المغربي.
هذه بعض من الأفكار التي نتداولها مع المبدعين المغاربة "الشباب" في وجدة وما أكثرهم وبعض "الشيوخ" وما أقلهم، حول ماهية الإبداع وقيمته المعرفية، ودور الإنسان في إيجاد العلاقة التي تحكم العمل الفني وتربطه بالحياة في اتساعها وعمقها، وأعتقد أن الروائي جلول قاسمي، استطاع أن يعبر عن هذه الأفكار والرؤى في روايته الجديدة "العابر" الصادرة عن إفريقيا الشرق في 207 صفحة من القطع المتوسط. وهي رواية مختلفة بفضائها، مختلفة بلعبتها، مختلفة برهاناتها، قراءتها ليست يسيرة لغير المحترفين.
تنطلق رواية "العابر" لجلول قاسمي من معاناة حقيقية، تكشف العلاقة بين الواقع المهمش المتخم بالرموز الاجتماعية المنسية في ذاكرة يطبعها التهميش المنظم الواعي، وبين الوعي المعرفي بسلطة الذات لبطل إشكالي خبر – بحكم تخصصه الفلسفي- أزمة العقل وعبثيته في بيئة لا تعترف به. مرزاق أو "محزاق" الذي انتظر فرصته لإثبات عقله وذاته، يجد نفسه أستاذا عرضيا للفلسفة/للعقل، العقل العرضي المؤقت الذي لا يعمل إلا عند الحاجة إليه، لنملأ به الثغرات، وكان حقه الطبيعي أن يكون في الواجهة نظرا لاكتسابه صفات نمطية مميزة تجعله هو القاعدة وغيره هم الاستثناء، شخصية مرزاق تلخص صراعا خفيا يمتد في مساحتين مختلفتين، أو لنقل بشكل أكثر دقة إن هذه الشخصية تشتغل على بعدين يسيران بالتوازي ويتشكلان في لاوعي المؤلف عن طريق استقراء الموروث الداخلي الذي عايشه شخصيا سواء في الفضاء الموصوف أو في الممارسة الفعلية في الواقع، ومع ذلك استطاع المؤلف في نظري أن يجعل من هذه الشخصية المرحة المليئة بالصور المتناقضة إلى حد السخرية من الذات أحيانا مرجعا يتسع لكل التأملات في المجتمع والفكر، وربما في السياق الفكري المغربي الحديث والمنظومات المعرفية والاجتماعية المتهرئة أيضا. فمرزاق الذي يدل اسمه الحرفي على البركة والرزق استنادا إلى المرجعية اللغوية التي وظفها المؤلف بشكل ذكي يصل إلى الغباء المقصود أحيانا، تجده أكثر الشخصيات النمطية بعيدا عن هذا التوصيف لأنه في الواقع رمز لكل المعاني المبتذلة غير الرزق والبركة، كما لو أن اسمه يرمز لغير ما يتصف به، كالشريف النذل أو كالغني البخيل، هذا النموذج مألوف حقا في الرواية المعاصرة، لكن الجديد بالنسبة لرواية العابر هو أن المؤلف استطاع أن يجمع في هذه الشخصية الكثير من التناقضات المحيرة بين قيم العقل التي يمثلها باعتباره فيلسوفا يدافع عن قيم العقل والجمال وبين الرضوخ لبيئة لا تعترف بالعقل ولا حتى بالجنون الواعي، فنراه أحيانا ينزل من برجه العقلي وينغمس في تقاطعات تنتجها شخصيات أخرى متوازية الحضور معه، كما هو الأمر بالنسبة لشخصية الأب وموقفه من الموشمة الراقصة، وهو مشهد روائي يكشف عن هوة بين موقف مرزاق من الواقع الصعب وبين الذكريات البعيدة التي تسيطر على البناء السردي. أحيانا تحس بأن المؤلف يصف بعيون أبيه وليس بعيونه، يستعير هواجس الأب في تقمص رائع حتى لأدق التفاصيل، وهو ما يعطي لمشاهده الكثيرة قيمة جمالية صيغت بذكاء لافت.
راهنت الرواية على التفاصيل الدقيقة – البالغة الدقة- في وصف مجتمع مغلق، في بساطته حكمة لاذعة، وفي انغلاقه تجد رحابة فكر لا تجد سبيلا لإنكارها، ليجعل من هذا المجتمع المغلق بوابة كبيرة إلى هموم الإنسان، كل إنسان، ولعلنا هنا نجد الكثير من أواشج القربى مع الرواية في أمريكا اللاتينية خاصة عند كارسيا ماركيز، تكفيك هذه الخاصية لتجعل من روايتك "الصغيرة" المقيدة بحدود الزمان والمكان، رواية "كبيرة" تتفلت من القيود وتخترق حجب الحدود، وهنا يجب على المؤلفين العرب، روائيين كانوا أم غير روائيين أن يجتهدوا في ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأخرى، أن يشجعوا ترجمة مؤلفاتهم ما أمكنهم ذلك.
ترجمة الرواية المغربية ليست ترجمة اللغة السطحية، فهذه مهمة يقوم بها كتاب العقود التجارية وموثقي الزواج والطلاق، ولكن ترجمة الرواية يجب ألا تغفل عناصر الحياة من النص السردي، أن تترجم العلاقات العميقة وخلجات الشخصيات، أن تقترب من روح النص وطريقة بنائه، أن تنقل لنا الشيء نفسه إلى لغات العالم، حتى يتعرف الآخرون على مخزوننا السردي الغني الذي لا يضاهى في عبقريته وخصوصياته، على المترجم الألمعي أن ينظر في الرواية إلى حركات الموشمة وهي ترقص أمام الأب، ويربط ذلك بحركة الماء درءا للغبار المتطاير، سيجد المترجم نفسه حائرا كيف ينقل هذه الخلجات وهذه التفاصيل الموغلة في الرمزية إلى لغة قريبة لا تستعمل اللغة في التعبير وإنما تستغل إيقاع الحركة، وقد وفق جلول قاسمي في أن يستعمل هذه اللغة توفيقا ملحوظا، حتى إن القارىء يحس في مراحل قراءته للنص الروائي أن المؤلف إنما يقصد إلى ذلك قصدا، لإخفاء تجليات اللغة المبهمة والاستعانة بلغة الحركة التي أتقنها إتقانا تاما: المشكلة أنك حين تتحدث إلى جلول مباشرة عن هذه التقنية، (في جلسات كثيرة لي معه) أقصد الإكثار من استعمال الحركة لوصف دقائق النفس الإنسانية لشخصياته الروائية، يجيبك ببساطة: "أنا لا أعرف التقنيات"، أقول ببساطة: ليتني أستطيع أن أصدقه! على كل حال، هذه التقنية لفتت انتباهي وأنا أقرأ فصول الرواية وأتعمق في قراءتها!
استطاع جلول قاسمي أن يرسم لنا عن طريق الحكي عالما روائيا مختلفا، سمه ما شئت "أدب الهامش" أو "أدب الظل"، لكن المؤكد هو أن هذه الرواية تعبر بجلاء عن خصوصيات الفضاء الروائي في شرق المغرب بكل تجلياتها، مرورا برائحة الهواء مرورا بهمسات الناس في الشوارع، وصولا إلى تطلعاتهم المستقبلية. إضافة إلى المزاوجة الرائعة بين عالمين في شخصية واحدة، هي شخصية "مرزاق" الذي يحمل هما مزدوجا، غامضا غموض العقل الفلسفي، بسيطا بساطة فلاح في حقله. الجمع بين الماء والنار ليس مستحيلا في رواية العابر. ولذلك هي في تقديري رواية تستحق القراءة، وإضافة نوعية إلى المكتبة المغربية تفتح رؤية جديدة للتعامل مع فن الرواية بأدوات جديدة ورؤى غير تقليدية.



 
  محمد بنسعيد (المغرب) (2009-08-31)
Partager

تعليقات:
متابع /المغرب 2011-07-19
ورد نحت الصورة في أعلى المقال اسم محمد بنسعيد وهو صاحب المقال، أما الصورة فهي للروائي جلول قاسمي.
البريد الإلكتروني : adabwebmaster@gmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

نظرات على هامش رواية

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia